العدد الثاني من مجلة القضاء المدني

افـتـتـاحـيـة

لقيت مجلة القضاء المدني في عددها الأول – ولله الحمد– تجاوبا كبيرا من لدن مختلف المهتمين بحقول القانون المعرفية، عكسه حجم الاقبال عليه الذي فاق توقعاتنا، ورسائل الترحيب الحار والاستحسان الكبير التي وردت على إدارة المجلة من مختلف الجهات التي توصلت إلى العدد من مؤسسات و جامعات و أساتذة وطلبة باحثين ومهنيين بقطاع العدالة، حيث نوهت بجرأة القائمين على إصدار مجلة متخصصة في مجالات المواد المدنية، والتي تعد المبادرة الأولى من نوعها على الساحة القانونية بالمغرب، مشددة في نفس الوقت على ضرورة رعاية هذه التجربة، والإرتقاء بها، حتى تأخذ مكانتها، و تحقق إشعاعها في ساحة الإصدارات القانونية بالمغرب، والعالم العربي.

وبقدر ما أثلج صدورنا هذا التجاوب الذي لقيه العدد الأول من المجلة، بقدر ما زاد من إحساسنا بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقنا، ويفرض علينا بذل مزيد من الجهد حتى نحافظ على ثقة  قرائنا الكرام، ونكون دائما عند حسن ظنهم، لنتمكن معا من تحقيق الأهداف الكامنة وراء إصدار هذه المجلة، وتطوير سبل التواصل والتحاور بين مختلف الباحثين في مجال القانون في المغرب.

واستمرارا على نهجها، ووفاء لخطها التحريري القائم على نشر الدراسات والابحاث العلمية العالية المستوى، تضع المجلة بين يدي قرائها الأعزاء عددا متميزا يضم بحوثا علمية رصينة، وعددها تسعة، بالإضافة إلى ثلاثة تعاليق على أحكام، فستة منها في مجال القانون المدني والقانون القضائي الخاص، وثلاثة في نطاق قوانين الأحوال الشخصية، واثنين في تخصص القانون التجاري، والأخير في مجال القانون الإجتماعي.

ففي مجال القانون المدني نستهل باب دراسات وأبحاث بدراسة حول (( دور الاختلاف الفقهي في نمو وتطوير الفكر القانوني ))، للأستاذ الدكتور عبد القادر العرعاري يتناول فيها العلاقة الجدلية التي تجمع بين نمو النظام القانوني الحديث وضرورة الإحاطة بالرصيد الفقهي الموروث عن الفكر الإسلامي خصوصا في المواد التي تتسع لاستيعاب حلول وفتاوى هذا الفقه، وكذا ما يطرحه تعدد الأراء في الفقه الاسلامي وتضاربها من صعوبة في فهمه، وسبل احتواء هذا الفقه والاستفادة منه في التشريع المعاصر، وتأثير هذه الإزدواجية الثقافية الناجمة عن ذلك على تطوير مردودية الفكر القانوني.

ويحتوي العدد على بحث بعنوان (( الرقابة القضائية على صحة المحررات العدلية ))  للدكتور عبد العلي حفيظ، وهو يتناول حجية الرسوم العدلية غير غير المخاطب عليها من طرف قاضي التوثيق، وما إذا كانت تتمتع بحجيتها الاتباتية بمجرد تلقي الشهادة أو الإشهاد على تصرف قانوني معين من طرف العدلين، كما هو الحال بالنسبة للموثقين العصريين، أما لابد من خطاب قاضي التوثيق عليها حتى تكتمل صفتها الرسمية.

كما يضم العدد بين دفتيه بحثا للدكتور العربي مياد حول موضوع (( الايجار المفضي إلى تملك العقار)) هو عبارة عن قراءة عامة في القانون رقم 51.00 المتعلق بالإيجار المفضي إلى تملك العقار، من حيث بين نطاق تطبيقه، وتحديد الطبيعة القانونية للعقد، وشكليات إبرامه ومضمونه، وذلك بالإضافة إلى بيان حقوق والتزامات أطرافه، وكذا ضوابط إبرام عقد البيع النهائي.

وفي مجال الأحوال الشخصية يقدم الأستاذ الدكتور أحمد زوكاغي بحثا بعنوان (( الكفالة في قانون الجنسية المغربي))، يتحدث فيه عن الكفالة كمصدر جديد لاكتساب الجنسية، بحيث بين أحكام وشروط تقديم التصريح الرامي إلى اكتساب الجنسية المغربية، مع التمييز بين حالة تقديم التصريح من طرف الكافل لفائدة مكفوله، وحالة المكفول الذي يتولى بنفسه تقديم التصريح الهادف للدخول في الجنسية، تليه دراسة قيمة للأستاذ حسن إبراهيمي حول  ((انعكاسات تطبيق مدونة الأسرة على الجالية المغربية المقيمة بأوربا الغربية ))، يسائل فيها التعديلات الجريئة التي طرأت على مدونة الأسرة، ونجاعتها في التأثير على الموقف القضائي الأوربي، الذي ينزع إلى استبعاد القوانين الأسرية ذات المرجعية الإسلامية من التطبيق على الروابط الأسرية التي يكون أحد اطرافها مسلما، تحت ذريعة مخالفتها للنظام العام الدولي للمجتمعات الأوربية. ثم بحثا بعنوان (( خصوصيات طرق الطعن في الأحكام في مدونة الأسرة )) للدكتور عبد القادر قرموش يستعرض فيه منهج المشرع في التوفيق بين حق الأطراف في الطعن في الأحكام والقرارات والأوامر الصادرة في قضايا الأسرة تكريسا لمبدأ تعدد درجات التقاضي، وبين خصوصية قضايا الأسرة وحساسيتها والتي تقتضي تقليص طرق الطعن وتقصير آجالها، وتبسيط إجراءاتها تحقيقا لسرعة البت فيها للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي.

وفي مجال قانون الأعمال والمقاولات يتضمن العدد بحثا حول (( قواعد الاحتفاظ بالوثائق المحاسبية في التشريع المغربي )) للأستاذ عبد العالي المكنوني يعالج فيه ضوابط حفظ الوثائق المحاسبية من حيث مضمون هذا الالتزام وكيفيته ومدته، مع تحديد مواطن الضعف والخلل في المقتضيات المنظمة لها، وتقديم الحلول التي تتلاءم ومتطلبات العمل التجاري الحديث، يتبعه بحث لنا بعنوان (( مفهوم الصعوبات المالية المبررة لإخضاع المقاولة لإجراء التسوية الودية ))، حاولنا من خلاله تحديد الوضعية المالية التي تبرر استفادة المقاولة من نظام التسوية الودية، وذلك عبر رصد مختلف الحالات التي يمكن فيها فتح إجراء من هذا القبيل. ورسم الحدود الفاصلة بينها وبين التوقف عن دفع الديون المستحقة المبرر لفتح مساطر المعالجة القضائية.

ويختتم هذا الباب ببحث للأستاذ عصام الوراري في مجال القانون الإجتماعي بعنوان (( حدود سلطة المشغل في تغيير مكان عمل الأجير في ضوء العمل القضائي )). وهو  يتناول حالة من حالات التعديل الانفرادي لعقد الشغل من قبل المشغل تمس مكان تنفيذه، ودور القضاء – أمام سكوت المشرع – في رسم الحدود الممكن في إطارها للمشغل تغيير مكان تنفيذ الشغل بما يسمح للمقاولة بالتكيف مع الظروف المالية والاقتصادية المحيطة بها، ويوفر في ذات الوقت حماية فعالة للأجير من استغلال المشغل لسلطته في الإدارة والتنظيم قصد الافتتات على الحقوق الأساسية للأجير والمساس بها.

وفي باب أحكام وتعاليق، يضم العدد تعليقا على قرار محكمة الاستئناف بتطوان الصادر تحت عدد 32، بتاريخ  15 مارس 2010 للدكتور موحى ولحسن ميموني يناقش فيه سلطة المحكمة في الحكم بعدم قبول الدعوى بعد الأمر بإجراء من إجراءات التحقيق، يتلوه تعليقين لنا على قرارين للمجلس الأعلى؛ الأول صادر تحت عدد 4402 بتاريخ 24 دجنبر 2008، بحثنا فيه حدود اختصاص المجلس الأعلى للنظر كجهة استئنافية في الأحكام الصادرة بشأن الاختصاص النوعي عن مختلف محاكم المملكة، استنادا إلى مقتضيات المادة 13 من القانون رقم 90.41 المحدث للمحاكم الإدارية، وما إذا كان هذا الاختصاص يشمل جميع الأحكام الصادرة عن مختلف المحاكم المندرجة في التنظيم القضائي المغربي، سواء كانت محاكم عادية، أو تجارية أو إدارية. وكذا، بطبيعة هذه الأحكام التي تستأنف أمامه، هل تنحصر في الحكم بمعناه الضيق، والصادر عن محاكم الموضوع، أم يشمل أيضا، الأوامر الصادرة عن رؤساء مختلف هذه المحاكم في إطار الاختصاصات المسندة إليهم بنص القانون بصفتهم قضاة الاستعجال، والثاني تحت عدد 646، بتاريخ 26 دجنبر 2007، يناقش قابلية الحكم المختلط -الذي يفصل في شق من الموضوع، ويأمر في ذات الوقت بإجراء تمهيدي- للطعن المباشر باستقلال عن الحكم الفاصل في جميع النزاع الموضوع، حاولنا فيه تحديد الطبيعة القانونية للأحكام التي تصدر على هذا النحو، وما إذا كانت تعتبر أحكاما قطعية لكونها تفصل في جزء من جوهر النزاع، أم أحكاما تمهيدية لأنطوائها على أمر بإجراء تحقيق، أم أنها على خلاف هذا وذلك تبقى أحكاما من طبيعة خاصة لكونها تجمع ما بين خصائص القرار القطعي، والقرار التمهيدي. وقد ذيل هذا الباب بما يربو عن 26 حكم تمثل أهم الاجتهادات القضائية الصادرة حديثا عن مختلف المحاكم المملكة في المواد المدنية تتوزع بين أحكام وقرارات تعالج إشكالات ذات أهمية على المستوى العملي.

ويحتوي باب نصوص ووثائق على نص القانون رقم 30.08 المغير والمتمم بموجبه القانون رقم 06.99 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، ومرسومه التطبيقي، والمرسوم الصادر بتطبيق القانون رقم 17.95 المتعلق بشركات المساهمة، وكذا توصية والي بنك المغرب رقم ب.ر 33 / و /2007 المتعلقة بمنتجات الإجارة والمشاركة والمرابحة، كما يحوي الباب أيضا مشروع قانون رقم 07.14 يغير ويتمم بموجبه ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري الذي يرمي إلى ملاءمة أحسن لهذا الظهير مع الواقع الحالي، وذلك عن طريق تغيير بعض مقتضياته،

ويتضمن باب ” أعمال جامعية ” بتقرير حول أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص من كلية الحقوق أكدال، تقدم بها الأستاذ الباحث محمد الإدريسي تحت موضوع ” تكييف العقود في القانون المدني”، للأستاذ الباحث محمد الإدريسي.

وكالعادة تختتم المجلة ترتيب موادها في العدد الماثل ب” كشاف القضاء المدني “، الذي يتضمن فهرسة لعدد من المقالات والأبحاث المنشورة بدوريات زميلة في النصف الأول من هذه السنة، وكذا الرسائل والأطروحات التي تمت مناقشتها خلال نفس الفترة في عدد من كليات الحقوق بالجامعات المغربية، وذلك بالاضافة إلى تتبع أحدث الإصدارات في الساحة القانونية، يليها عرض لمجموعة من القواعد المستخرجة من أهم القرارات غير المنشورة في مختلف المواد المدنية الصادرة عن المجلس الأعلى في الأونة الأخيرة.

وإذ نجدد اعتزازنا بالترحيب الحار والاستحسان الكبير الذي حظي به العدد الأول من المجلة، وما لقيه من إقبال من لدن الأساتذة، والباحثين والممارسين بحقل القانون، نعبر من جديد عن أملنا في أن تنال المجلة-مع توالي أعدادها -ثقتك عزيزي القارئ، حتى يكون  هذا المنبر جسرك لمواكبة مستجدات الساحة القانونية بالمغرب.

ويحذونا الأمل أن يحظى هذا العدد برضا القارئ الكريم، وأن يجد فيه ما يشفي نهمه وشغفه العلمي، والله ولي التوفيق.

زكرياء العماري

الرباط في 10 أكتوبر 2010