العدد الأول من مجلة القضاء المدني

افـتـتـاحـيـة

بوصول هذا العدد إلى ما بين يديك قارئي الكريم، تكون مجلة القضاء المدني قد وقعت على شهادة ميلادها، وحققت أولى رهاناتها بالخروج إلى حيز الوجود في زمن أصبح فيه إصدار دورية يشكل في حد ذاته مغامرة محفوفة بالمخاطر، أمام المعوقات التي باتت تطبع سوق النشر بالمغرب بدءا من غلاء تكلفة الطبع، مرورا بمعوقات التوزيع، وانتهاء بارتفاع نسبة الأمية، مما ينتج عنه بالضرورة تدني نسبة القراءة وضعف الاقبال على الكتاب.

ويأتي صدور هذه المجلة تلبية لرغبة ملحة كانت وماتزال تحذونا في إغناء الساحة القانونية بالمغرب بدوريات متعددة تغطي شتى حقول القانون المعرفية، وذلك إيمانا منا بالدور الذي يمكن أن يؤديه الإعلام القانوني في الرقي بالعمل التشريعي، وتطوير العمل القضائي ببلادنا. كما تأتي هذه المبادرة أيضا مساهمة منا في إغناء المشهد الثقافي بدورية تنضاف إلى مثيلاتها، وتتقاسم معها همّ تنمية الأبحاث والدراسات القانونية الرصينة والارتقاء بها للإسهام في تنشيط الفكر القانوني وإثرائه، بكيفية تسهم في  نشر الوعي الحقوقي، وإيصال المعلومة القانونية لأكبر شريحة من الباحثين والمهنيين.

وإذا كنا قد ارتأينا أن نحصر مجال اهتمام هذه المجلة في تخصص معين من حقول القانون المعرفية، فإن ذلك لم يكن اختيارا في حد ذاته بقدر ما كان أمرا ضروريا أملاه التضخم الكبير الذي طبع واقع العمل التشريعي والقضائي ببلادنا منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، مما نجم عنه أن باتت الدوريات القانونية العامة تضيق صفحاتها عن مسايرة هذا الزخم من القوانين والأحكام بالدراسة والنقد والتحليل أمام اتساع مجالات اهتمامها، ويفرض بالتالي وجود دوريات متخصصة في شتى حقول القانون المعرفية لمواكبة الدراسات والأبحاث والإجتهادت المبلورة في إطار هذه الحقول. أضف إلى ذلك أن الراصد لتجربة الاعلام القانوني بالمغرب، سيخرج لا شك باعتقاد راسخ على أن الدوريات القانونية التي تؤثت المشهد الثقافي ببلادنا راكمت من الخبرات ما جعل هذه التجربة تبلغ أشدها، مما يقتضي النزوح بها نحو التخصص من أجل تحقيق رهانات جديدة تسهم في تنمية العمل التشريعي والقضائي والرقي به نحو الأفضل.

والمجلة إذا تنحو – كما قد يوحي عنوانها- منحى التخصص في المادة المدنية، فإنها لن تتقيد في ذلك بالمفهوم الضيق لهذه المادة، بما ينجم عنه حصر مجال اهتمامها في القانون المدني وحده بالتحديد المتعارف عليه لدى القانونيين في وقتنا الحاضر، وإنما ستنفتح في بداية تجربتها هذه على جميع الدراسات والأبحاث والاجتهادات القضائية المرتبطة بكافة مجالات المواد المدنية، كقانون الأعمال والمقاولات، الأحوال الشخصية، العقاري، المسطرة المدنية والتنظيم القضائي…، على اعتبار أن القانون المدني لا زال يرخي بظلاله على القواعد التي تحكم مجمل المواد المذكورة. إذ بالرغم من استقلال هذه المواد بتشريعات خاصة تراعي خصوصية العلاقات الاجتماعية التي تنظمها، فإن ذلك لم يكن ليحول دون بقاءها خاضعة في كثير من جوانبها للمبادئ التي تمت بلورتها في إطار القانون المدني باعتباره يشكل الشريعة العامة للقانون، التي تفرعت عنها مختلف التصنيفات والتخصصات القانونية السائدة اليوم.

ومما يميز هذه المجلة كذلك أنها اختارت أن تخرج عن محليتها لتنفتح على محيطها الاقليمي من خلال نشر الدراسات والأبحاث المنجزة في إطار التشريعات المقارنة، وكذا الإجتهادات الصادرة في إطارها، بحيث ستفسح المجال أمام الباحثين العرب لمدها بمساهماتهم بهذا الخصوص، كما ستعمل على توزيع أعدادها بعدد من الدول العربية الشقيقة مريدة بذلك أن تكون سفيرا للفكر القانوني المغربي، بما يسهم في التعريف بالتطور الذي شهدته وماتزال تشهده نظم القانون ببلادنا، ويتيح المجال للتلاقح مع تشريعات واجتهادات هذه الدول.

إلا أنه ومهما كانت عزيمتنا صادقة في الرقي بهذه الدورية والدفع بها إلى الأمام بغية إيجاد موطئ قدم لها في ساحة تعج بالاصدرات، فإن هذه الإرادة لن تبلغ مداها إلا بتظافر عاملين إثنين: أولهما أن تلقى هذه المبادرة تجاوبا وتفاعلا منك قارئي الكريم ومن كافة المنشغلين بمجالات اهتمام المجلة من باحثين وقضاة ومحامين…، وثانيهما أن تحافظ المجلة على طابع رصين لها، وهو ما لن يتأتى لها إلا بالحرص على جودة ما ينشر بها من مواد، مما يستدعي اعتماد المجلة لنظام التحكيم العلمي، وذلك بعرض المساهمات والأبحاث المرشحة للنشر على لجنة علمية تتولى تحديد مدى استيفائها للضوابط العلمية المتعارف عليها في هذا المجال، وتقدير قابليتها للنشر.

وستعتمد المجلة في تبويبها على محاور ثابتة، تتميز بتنوعها وشمولها لكل ما يرتبط بالمواد المدنية، من دراسات وأبحاث وأحكام وتعاليق ونصوص تشريعية وتنظيمية وفهرسة…، بحيث ستفتتح المجلة كل عدد منها بمحور مخصص للدراسات والأبحاث ستدرج فيه أحدث المساهمات العلمية المتعلقة بالاشكالات الراهنة التي يفرزها التطبيق العملي لمختلف النصوص القانونية، يليه محور أحكام وتعاليق سيخصص لنشر آخر الإجتهادات القضائية الصادرة عن محاكم المملكة بمختلف درجاتها، مع التركيز بالخصوص على اجتهادات المجلس الأعلى، ليس انتقاصا من قدر وكفاءة قضاتنا على مستوى محاكم الدرجة الأولى أو الثانية، ولكن لما ينطوي عليه الاجتهاد الصادر عن المجلس من استقرار نسبي، ومن حجية أقوى تجعل محاكم الموضوع ملزمة أدبيا بالتقيد به مخافة تعرض أحكامها وقراراتها للنقض عند مخالفته. وتستمد هذه الحجية أساسها من الدور المنوط بالمجلس الأعلى – باعتباره يتربع على هرم التنظيم القضائي بالمغرب- من أجل السهر على مراقبة حسن تطبيق وتأويل القاعدة القانونية، وصولا إلى توحيد الاجتهادات القضائية على مستوى المملكة.

وسيردف بمحور نصوص تشريعية وتنظيمية يتم تخصيصه لإستعراض مختلف النصوص القانونية المنشورة بالجريدة الرسمية والتي لها علاقة بالمواد المدنية، سواء تعلق الأمر بقوانين أو مراسيم أو قرارات وزيرية، أو مناشير، مع الانفتاح على مشاريع ومقترحات القوانين، لوضعها رهن إشارة الباحثين من أجل خلق نقاش فكري حولها، وتناولها بالتقييم والنقد البناء لتوجيه المشرع إلى تجاوز ما تنطوي عليه من قصور قبل اعتمادها.

أما المحور الرابع والمعنون ب – كشاف القضاء المدني-، فتهدف من خلالها المجلة إلى حصر وتكشيف المعلومات المتعلقة بالمساهمات والأبحاث والدراسات والاجتهادات القضائية المندرجة في مجال المواد المدنية، والتي تم نشرها بالدوريات المغربية عن طريق توفير  البيانات الببليوغرافية الأساسية كعنوان العمل ومؤلفه، وبيانات النشر وما إلى ذلك من بيانات تهم الباحث، بالنسبة للمساهمات والقواعد بالنسبة للإجتهادات القضائية، وذلك بغية توفير دليل للباحثين والمهتمين يكون طريقهم إلى المعلومات التي تخص أحدث الأبحاث المنجزة والأحكام الصادرة بهذا الخصوص. لتختتم المجلة محاورها بنافذة – في رحاب الجامعة- التي ارتأينا من خلالها أن ننفتح على النشاط الجامعي من أجل خلق صلة وصل بين الجامعة ومحيطها، يتم من خلالها التعريف بالرسائل والأطروحات المناقشة حديثا، مع تغطية ما يعقد بمدرجات الجامعة من ندوات وأيام دراسية لها ارتباط بمجالات اهتمام المجلة.

عزيزي القارئ :

تفتتح مجلة القضاء المدني عددها الأول بباقة متنوعة من الأبحاث والدراسات المتميزة. وهكذا، نقرأ في المحور المخصص للدراسات والأبحاث مساهمة قيمة للدكتور أحمد الزوكاغي حول حول نسب الحمل الناشئ أثناء الخطبة، يتناول فيها بالشرح والتحليل فكرة الشبهة التي ترتكز عليها المادة 156 من مدونة الأسرة لتقرير نسبة الحمل الذي يظهر على المخطوبة خلال فترة الخطوبة للخاطب، تليها دراسة للباحث عبد العلي حفيظ يتناول فيها ممارسة أخذت بعدا واسعا وطابعا مستقرا في العديد من مدن المملكة، بل وجرت مجرى العرف في اعتقاد الكثيرين، فرضها ضغط الأزمة السكنية في بلادنا وعزوف مالكي العقارات عن تخصيصها للكراء السكني خوفا من التحمل بالإجراءات القانونية التي سنها المشرع لإنهاء العلاقة الكرائية حفاظا على استقرار المكتري بالعين المكتراة، وكذلك هروبا من تحمل تبعات تملص المكترين من أداء الوجيبة الكرائية، وهذه الممارسة هي ما يصطلح عليه برهن المنازل.

ويقدم الباحث يوسف بوكنيفي مساهمة حول تقادم دعوى المسؤولية التقصيرية في التشريع المغربي، يتناول فيها منهج المشرع للتوفيق بين مصلحة المتضرر ومرتكب الفعل الضار، في تحديد مدة تقادم الدعوى، وماإذا كان وفق في ذلك فعلا، لينقلنا الباحث محمد أمعنان العيساوي إلى الاشكال المتعلق بتذييل حكم المحكمين بالصيغة التنفيذية، وما إذا كانت السلطة في ذلك تعود إلى رئيس المحكمة، أم إلى المحكمة بكامل هيئتها.

كما يتضمن العدد أيضا بحثا لنا حول المسؤولية المدنية والجنائية للمصالح المعين في إطار إجراء التسوية الودية، حاولنا من خلاله تكييف طبيعة هذه المسؤولية أمام تعدد أنظمة المسؤولية المدنية، وكذا رسم حدودها سواء تجاه المقاولة المدينة، أم تجاه الدائنين والغير، خاصة أمام محدودية تدخله في إطار هذه الإجراءات، وضعف الصلاحيات والسلطات المخولة له قانونا، لنختم هذا المحور بدراسة شيقة يتلاقى فيها قانون حقوق المؤلف مع قانون الشغل، حول الحقوق المادية الناجمة عن ابداعات الأجراء للباحث نبيل بوطوبة، يسائل فيها النهج الذي خطه المشرع المغربي من أجل تنظيم ملكية الحقوق المادية الناجمة عن المصنفات التي يتوصل الأجير  إلى ابداعها أثناء تنفيذه لإلتزاماته المترتبة عن عقد شغل، وما إذا كان قد نجح في التوفيق بين مصلحة كل من الأجير والمشغل.

و في المحور الثاني المتعلق بأحكام وتعاليق، حرصت المجلة على أن تدرج فيه أهم الاجتهادات القضائية التي أقرها القضاء المغربي في الفترات الأخيرة، وهكذا، نجد قرارات وأحكام متنوعة حول التيسير في إثبات الحبس، اسثناء الأحباس من قاعدة التطهير الناجمة عن تأسيس الرسم العقاري، اقرار رقابة القضاء على سلطة المحافظ في رفض التعرضات الاستثنائية على مطالب التحفيظ، جواز سلوك إجراءات التنفيذ الجبري، وما ينجم عنها من توقيع الحجز ضد الدولة والمؤسسات العمومية في حال امتناعها عن تنفيذ الأحكام القضائية، اسثتناء الحجوزات التحفظية من نطاق إجراءات التنفيذ التي تخضع لقاعدة إيقاف المتابعات الفردية في إطار مساطر صعوبات المقاولة، عدم جواز تأسيس أصول تجارية على الأملاك الحبسية المستغلة في مزاولة التجارة، عدم إضفاء وصف الخطأ الجسيم على رفض الأجير الاشتغال لساعات إضافية، الطابع الوجوبي لإدلاء الأجير المتغيب بسبب المرض بالشهادة الطبية أجل 48 ساعة من تارخ تغيبه…

أما المحور الثالث المخصص للنصوص التشريعية والتنظيمية، فقد حاولنا فيه قدر الامكان جرد مختلف النصوص التشريعية والتنظيمية المتصلة بالمواد المدنية الصادرة خلال السنة الفارطة، بحيث عرضنا لنص القانون رقم 12.09 المتعلق بالتعديلات التي تم إدخالها على مدونة التأمينات الصادرة سنة 2002، تليه المراسيم والقرارات الوزيرية التي صدرت سنة 2009 من أجل تطبيق مقتضيات مدونة الشغل، وكذا قرارات وزير العدل الثلاثة المتعلقة بقانون خطة العدالة، وأخيرا قرار وزير المالية القاضي بالمصادقة على منشور والي بنك المغرب المحدد لشروط نشر مؤسسات الائتمان لقوائمها التركيبية.

وتنفرد مجلة القضاء المدني في زوايتها المتعلقة بمشاريع ومقترحات قوانين، بنشر الصيغة الأخيرة لمشروع القانون التنظيمي الذي طال انتظاره منذ أن نص عليه دستور المملكة لسنة 1962، والمتعلق بشروط وإجراءات ممارسة حق الإضراب. ويعرف هذا المشروع مفهوم حق الإضراب، ويضع المبادئ الأساسية التي تضبط ممارسته، بما يضمن ويحمي حق الإضراب بالنسبة للأجير المضرب وحرية العمل بالنسبة للأجير غير المضرب، ويحافظ على سلامة المؤسسات و ممتلكاتها، و يضمن حدا أدنى من الخدمة في المرافق والمؤسسات العمومية حفاظا على المصلحة العامة، كما يحدد مشروع هذا القانون التزامات الأطراف والإجراءات الزجرية الممكن اتخاذها في حالة الإخلال بها.

وفي محور كشاف القضاء المدني، عملنا على فهرسة مجموعة من المقالات والأبحاث المنشورة بالأعداد الأخيرة من بعض المجلات الزميلة، كما عملنا أيضا على فهرسة بعض الرسائل والأطروحات التي نوقشت في كليتي الحقوق السويسي وأكدال، بالاضافة إلى تتبع أحدث الإصدارات على مستوى المؤلفات القانونية، بينما عرضنا في زاوية الاجتهاد القضائي لمجموعة من أهم القواعد غير المنشورة التي أقرها المجلس الأعلى في المواد المدنية خلال الأربع سنوات الأخيرة، وهو بصدد الفصل في الطعون بالنقض المرفوعة إليه ضد الأحكام والقرارات الصادرة عن مختلف محاكم المملكة.

أما نافذة في رحاب الجامعة فتلقي الضوء على مبادرة ثلة من الباحثين الشباب، إلى تأسيس مركز بالرباط يعنى بتشجيع وتنمية الدراسات والأبحاث حول العلوم القانونية.

وكلنا أمل في أن تجد قارئي الكريم في هذه الدورية ما يفي بالمقصود، والله ولي التوفيق.

زكرياء العماري

الرباط في 22 يناير 2010