ندوة وطنية: الأمن القانوني والقضائي ورهانات النموذج التنموي
تقرير تركيبي*
نظم المركز الوطني للدراسات القانونية، وبشراكة مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ومختبر القانون العام وحقوق الإنسان بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، ندوة وطنية حول موضوع راهني يتعلق بالأمن القانوني والقضائي ورهانات النموذج التنموي. وذلك يوم الخميس 12 ماي برحاب كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية، وسط حضور كبير لأساتذة جامعيين وأكادميين وقضاة وطلبة باحثين ومهتمين ووسائل إعلام وطنية.
لقد تشرفت هذه الندوة بكلمة السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية التي عبر من خلالها عن انفتاح المجلس، بوصفها مؤسسة دستورية فاعلة، على الأنشطة العلمية الجادة التي من شأنها الرفع من أداء منظومة العدالة بالمغرب، انسجاما مع التوجهات المولوية في هذا الصدد،وتفعيلا لمضامين تقرير النموذج التنموي الجديد كوثيقة مرجعية لتثمين وتحسين أداء الفعل العمومي. كما ألقى السيد عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية كلمة في السياق نفسه، مثمنا انفتاح المجلس الأعلى للسلطة القضائية على مختلف الشركاء والفاعلين، معتبرا أن الكلية مستعدة على الدوام للانخراط في دينامية التغيير الإيجابي لبلادنا لتحقيق الأهداف المنشودة في تقرير النموذج التنموي الجديد. ومن جهته ثمن السيد رئيس المركز الوطني للدراسات القانونية،من خلال كلمته،انعقاد هذه الندوة والدور الذي لعبه الشركاء الثلاثة في إخراج فكرتها لحيز الوجود، معتبرا أن المركز يوجد في قلب الحركية العلمية والاجتماعية لبلادنا، معبرا عن استعداده لمواصلة هذا الأمر مع مختلف الفرقاء، خاصة وأنه يضم خيرة الباحثين في المجال القانوني بكل مباحثه. ولقد اختتمت الجلسة الافتتاحية لهذه الندوة بتبادل أدرع رمزية تبين رغبة الأطراف في متابعة هذه الشراكة المثمرة، والتي تعد بأنشطة مقبلة، وهي مناسبة لتخليد هذه اللحظة العلمية والإنسانية الراقية.
عرفت هذه الندوة الوطنية أربع جلسات علمية، توزعت على متدخلين جمعوا بين الدربة القضائية والعمق التحليلي الأكاديمي. ويمكن القول إن المداخلات اشتغلت على مقاربتين أساسيتين :
تتمثل الأولى في المقاربة الأداتية للقانون، بحيث ركزت على جودة النصوص القانونية وأثرها على الأمنين القانوني والقضائي، أما المقاربة الثانية، فهي مقاربة غائية، ركزت على علاقة ذلك، بتجويد وفعالية السياسات العمومية في إطار النموذج التنموي الجديد للمملكة.
وهكذا، عرفت الجلسة الأولى ثلاث مداخلات برئاسة الأستاذ “محمد أمين بن عبد الله”، العضو بالمجلسالأعلى للسلطة القضائية، الذي افتتح هذه الجلسة، مذكرا بأن الأمنين القانوني والقضائي مطلبين أساسيين لتحقيق العدالة. وقد كان من حسن طالع هذه الندوة على حد تعبير الأستاذ “محمد أمين بن عبد الله” أنها افتتحت بمداخلة الأستاذ “عبد الرحيم العماري”، أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية، خاصة وأنها أكدت على المرجعية الإسلامية للأمنين القانوني والقضائي، وما يعنيه ذلك، من ضرورة استلهام بعض المقولات الهوياتية، معتبرا الأستاذ “عبد الرحيم العماري”في الوقت نفسه أن هناك دينامية تواصلية واضحة أصبحت تسم المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
أما الأستاذة “خديجة الباين”، مستشارة بمحكمة النقض،في مداخلتها الثاني، فآثرت أن تبرز الدور الكبير الذي تعلبه محكمة النقض بوصفها محكمة قانون في تحقيق الأمنين القانوني والقضائي، خاصة من خلال توحيد الاجتهادات القضائية على مستوى جميع غرفها. ووعيا بالدور الذي تعلبه هذه المحكمة فقد واكبت التحولات القانونية الكبرى والسياسات العمومية المستجدة، والتي فرضت مساهمة فاعلة للمحكمة من أجل حماية المراكز القانونية للمتقاضين أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين.
لتختتم الجلسة الأولى بمداخلة الأستاذ “حلوييحيى”، أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بوجدة، الذي ركز من خلالها على سؤال جودة صياغة النصوص القانونية، وما للأمر من علاقة مباشرة على الأمن القانوني من حيث وضوح المعنى والمبني المتوقع من القاعدة القانونية، وما يستتبعه ذلك من أثر واضح على موقف القضاء من القوة المعيارية لعناوين النصوص على وجه الخصوص.
وخلال الجلسة الثانية، التي ترأسها الأستاذ “عمر الشرقاوي” أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية ، تميزتبمداخلة للأستاذ عبد اللطيف الشنتوف، عضو المجلس الأعلى للسلطة القضائية، التي ركز من خلالها على العلاقة بين الأمنين القانوني والقضائي مع النموذج التنموي الجديد للمملكة، حيث اعتبر أن هناك مرجعيات ناظمة في هذا الإطار ينبغي الانتباه إليها لخلق نوع من الانسجام بين القطبين، خاصة ما يتعلق بالخطب الملكية ودستور المملكة والمخطط الاستراتيجي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
في حين اهتم الأستاذ “رشيد المدور”،أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية،من خلال مداخلته الثانية بتأصيل مفهوم الأمن القانوني وكشف علاقته بالقضاء الدستوري، معتبرا أن الأمن القانوني يفترض مقومات معينة ساهم القضاء الدستوري في تحقيقها.
واهتمت المداخلة الثالثة، بأهمية تفعيل ما يسمى بدراسة الأثر التشريعي لضمان الأمن القانوني، حيث أبرزت الأستاذة “كوثر أمرير”، أستاذة زائرة وباحثة بالمركز الوطني للدراسات القانونية، بأن الإطار القانوني لدراسة الأثر التشريعي يسعف لتبين جودة وفعالية النصوص القانونية، إذ يكفي تفعيل مضامينه، بوصفه مؤشرا من مؤشرات نجاعة أداء المؤسسة التشريعية.
وخلال الجلسة الثالثة من هذه الندوة العلمية، التي ترأستها الأستاذة أمينة المالكي، عضو المجلس الأعلى للسلطة القضائية، عرفت مداخلة أولى للأستاذ “حسن الرحيبة” أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بفاس ومنسق وحدة القانون الجنائيبالمركز الوطني للدراسات القانونية، حيث ركزت على أهم الضمانات التي لتحقيق الأمن القضائي في ظل رقمنة الإجراءات الجنائية، معتبرا أن سؤال الرقمنة من الأسئلة التي برزت بشكل واضح خلال أزمة كورونا، إلا أنه هذه الأزمة كانت فرصة لتثبيت هذا الاختيار الاستراتيجي عبر مرجعيات أهمها الخطب الملكية وورش إصلاح العدالة بالمغرب.
في حين ربطت المداخلة الثانية خلال هذه الجلسة على ربط مفهوم العدالة الرقمية بتحقيق التنمية، حيث اعتبر من خلالها الأستاذ “عبد حكيم الحكماوي”، محامي عام لدى محكمة النقض ملحق لدى رئاسة النيابة العامة، إن هناك مرجعيات ناظمة لورش الرقمنة خاصة الإرادة الملكية السامية. مبرزا في نفس الوقت أن هذا الاختيار الاستراتيجي للمملكة حقق نتائج ملموسة على مستوى نجاعة العدالة وترشيد الزمن القضائي، وبعث الثقة لدى المتدخلين في العملية التنموية.
وخلال المداخلة الثالثة أبرز الأستاذ “عمر الشرقاوي” أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية، العلاقة الوطيدة بين العمل الذي تقوم به الأمانة العامة للحكومة وتحقيق الأمن القانوني، فهذا الأخير، لا يعني شيئا غير الرفع من جودة النصوص القانونية والثقة المشروعة في القانون، وهذا ما تسعى إليه الامانة العامة للحكومة بشكل دائم، رغم أن الدراسات الاكاديمية لم تهتم بشكل كبير بهذا الجهاز المحوري وبأدواره، والذي وإن كان دائما في الظل إلا أنه يبقى من الأدوات الأساسية لاستقرار المراكز القانونية، وبالتالي تحقيق أكبر قدر من الأمن القانوني.
لقد اختتمت هذه الندوة بجلسة علمية رابعة ترأسها الأستاذ “عبد العالي بنلياس”، أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالسويسي، بمداخلتين : الأولى، سلط فيها الضوء الأستاذ “سعد أصبان”، قاضي التوثيق ورئيس قسم قضاء الأسرة بالمحكمة الابتدائية بسلا، على أهمية التوثيق في تحقيق الأمن التعاقدي، معتبرا أن الإطار القانوني للتوثيق بالمغرب عرف عدة تطورات. ورغم الملاحظات التي تعتري بعض مضامينه، إلا أنه مدخل أساسي لتحقيق الأمن القانوني عموما. أما الثانية، فكانت للأستاذ “محمد بنسعيد”، أستاذ زائر وباحث بالمركز الوطني للدراسات القانونية، الذي اعتبر أن زمن أزمة كورونا وتحولات السياق العالمي فرضا أكثر من أي وقت مضى التحول نحو الرقمنة الكاملة للعدالة، رغم الصعوبات القانونية والواقعية التي ينبغي رفعها، في سبيل الانسجام مع متطلبات النموذج التنموي الجديد.
وفي نهاية هذا الحفل العلمي المتميز، وبعد نجاح أشغاله تنظيميا وعلميا، تمت تلاوة التقرير التركيبي لأشغال الندوة، الذي أكد على التوصيات التالية :
- الاشتغال على تدقيق مفهومي الأمنين القانوني والقضائي وتدقيق العلاقة بينهما، بحيث سيمكن ذلك من تحديد المتدخلين والمعنيين بهما،مما سيمكن من تجويد الممارسة القانونية والقضائية.
- يشكل التراث الإسلامي والهوياتي مجالا لاستنباط المقولات الأساسية للأمنيين القانوني والقضائي.
- تثمين التحول الإيجابي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية خاصة على مستوى التواصل القضائي، مما يشكل ضمانة أساسية للأمن القضائي والدعوة إلى الحفاظ على هذا المكسب.
- تثمين الدور المحوري لمحكمة النقض، بوصفها محكمة قانون، في تحقيق قدر كبير من الأمنين القانوني والقضائي عبر توحيد الاجتهاد القضائي،في سبيل حماية الاستثماربتوفير ضمانات قضائية إضافية لحماية عقود التحكيم، مع الدعوة إلى الحفاظ على هذا التوجه وهذا المكسب.
- الدعوة لجعل التوثيق العصري آلية أساسية لتحقيق الأمن التعاقدي بوصفه جزء لا يتجزء من الأمن القانوني.
- الحذر خلال صياغة النصوص القانونية، خاصة فيما يتعلق بعنونة هذه النصوص وتحديد مدلولها بشكل دقيق تحقيقا للقدر الكافي من الثقة المشروعة للقانون.
- جعل الأمانة العامة للحكومة في صلب الاهتمام الفقهي والأكاديمي لاستجلاء الأدوار الكبيرة التي تقوم بها على مستوى الأمن القانوني.
- الدعوة الى الاستثمار في الحركية والدينامية الكبيرة التي يشهدها ورش رقمنة العدالة كاختيار استراتيجي لا محيد عنه.
- تدعيم الضمانات المتعلقة برقمنة العدالة خاصة على المستوى الحقوقي.
- تثمينوتدعيم الدور البيداغوجي لمحكمة النقض في سبيل توحيد الاجتهادات القضائية والحرص على نجاعتها.
*لحسن الحميدي، أستاذ باحث بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بأكادير