بطلان المغارسة في الأراضي الوقفية

 

تعليق على قرار المجلس الأعلى عدد 2707 بتاريخ  05/07/2007

في الملف المدني عدد 3378/1/1/2006

 

ذ.زكرياء العماري*، 

أولا: نص القرار.

 

القرار عدد 2707

المؤرخ في 25/07/2007

ملف مدني  عدد 3378/1/1/2006

  • حبس- الأراضي الخالية من البناء- كراء للأمد المتوسط- التزام المكتري بالغرس- عقد مغارسة (لا)- التزام الأحباس بتمليك المكتري ثلث الأرض المغروسة- بطلان (نعم).

التزام الأحباس بمقتضى عقد كراء على أساس المغارسة للأمد المتوسط بمساعدة المغارس على تملكه ثلث العين المكراة أرضا وشجرا مقابل التزامه بغرس أشجار الزيتون فيها بعد نجاحها، إنما هو التزام من جهة الأحباس يعتبر باطلا لمخالفته مقتضيات ظهير 22/05/1917 بشأن ضبط كراء الأملاك الحبسية لمدى ثلاثة أو ستة أو تسعة أعوام والواجبة التطبيق في النازلة، والتي تلزم مكتري الملك الحبسي بقيامه بالغرس. إذ بمقتضى الفصل 13 منه أن الأراضي الخالية من البناء المكراة للأمد الوسطي يشترط في عقدها أن يغرس المكتري فيها. وأنه بمقتضى الفصل 11 من الظهير المذكور عند كمال التسعة أعوام يفرغ المكتري الملك الحبسي بجميع ما اشتمل عليه. وليس من ضمن مقتضياته ما يفيد منح المكتري الغارس أي حق عيني على ما قام به من غرس.  والقرار المطعون فيه حين ذهب عكس ذلك واعتبر استنادا للفصل 230 من قانون العقود والالتزامات على أن الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة لمنشئيها، واستبعد الاحتجاج بمقتضيات ظهير 22/05/1917 لكونها تخص الكراء يكون خارقا للقانون مما عرضه بالتالي للنقض والإبطال.

باسم جلالة الملك

إن المجلس الأعلى؛

وبعد المداولة طبقا للقانون:

في الدفع بعدم القبول: حيث دفع المطلوبون بأن مقال النقض مختل شكلا لتوجيهه ضد فاطمة بن علي رغم أنها متوفاة بتاريخ 24/01/1988 حسبما يتضح من شهادة وفاتها المرفقة بمذكرة الجواب.

لكن، حيث إنه ليس في مستندات الملف ما يفيد لا علم المحكمة ولا علم الطاعن بوفاة فاطمة بنت علي المذكورة لاسيما وأنه يتجلى من المذكرة المدلى بها في المرحلة الابتدائية من طرف المطلوبين أنفسهم أنها تتضمن اسم فاطمة بنت علي الأمر الذي يتعين معه رد الدفع.

وفي الموضوع: حيث يستفاد من مستندات الملف، أنه بمقتضى ثلاثة مطالب تحفيظ قيدت بالمحافظة العقارية بصفرو بتاريخ 03/10/1983 في اسم أحباس مسجد عزابة بواسطة ناظر أحباس صفرو. الأول تحت رقم 18246/07 يرمي إلى تحفيظ العقار الفلاحي الواقع بجماعة عزابة دائرة صفرو تحت اسم “بحيرة المسجد” المشتمل على أغراس الزيتون عدد 57 حددت مساحته في 57 أرا و 96 سنتيارا بصفتها مالكة له بالحيازة المستمرة مع التصرف لمدة تفوق عشر سنين دون منازع. والثاني تحت رقم 18247/07 يرمي إلى تحفيظ العقار الفلاحي الواقع بنفس المكان أعلاه  تحت اسم “بحيرة عبد الكريم” المشتمل على أغراس الزيتون عددها 72 حددت مساحته في 26 آرا و 51 سنتيارا بصفتها مالكة له بنفس الحيازة المذكورة. والثالث تحت رقم 18279/07 يرمي إلى تحفيظ العقار الفلاحي الواقع بنفس المكان أعلاه تحت اسم ” السويقية” والمشتمل على أغراس مختلفة منها 45 شجرة زيتون و50 شجرة  مختلطة حددت مساحته في 44 آرا و19 سنتيارا. فسجل على المطالب المذكورة بتاريخ 17/09/1999 كناش 3 عدد 244″ التعرض الصادر عن امحمد وادريس ابني على بوغرمان مطالبين بواجبهما المنجر لهما إرثا من والدهما في الثلث المشاع في العقارات محل النزاع حسب عقدي كراء على أساس المغارسة المبرمين بين موروثهما قيد حياته وناظر أوقاف صفرو المؤرخ أولهما في 31/12/1958، وثانيهما في 16/05/1961 المتضمنين كراء الناظر الملك الحبسي للموروث المذكور لأمد متوسط حدد في تسع سنين بوجيبة كرائية سنوية محددة في 50 ر42 درهما بالنسبة لأحد العقدين و 31 درهما بالنسبة للعقد الأخر على أن يغرس المكتري العين المكراة بشجر الزيتون. وتساعده الأحباس على تملكه الثلث في الأرض والشجر. وبرسم إراثة عدد 205 مؤرخ في 11/09/1986 وبعد إحالة ملفات المطالب المذكورة على المحكمة الابتدائية بصفرو وفتحها لها الملفات عدد 17-18-19/2003. وإجرائها بحثا بالمكتب بواسطة القاضي المقرر أصدرت – بعد ضم الملفات المذكورة- حكمها عدد 15 بتاريخ 09/06/2004 بصحة التعرض المشار إليه على المطالب أعلاه. استانفته طالبة التحفيظ وأيدته محكمة الاستنئاف المذكورة بقرارها المطعون فيه بالنقض أعلاه من طرف المستأنفة في السبب الثاني بخرق مقتضيات الظهير الشريف المؤرخ في 22/05/1917 ذلك أن العقدين اللذين يستند عليهما المطلوبان هما في الأساس عقدا كراء للأمد المتوسط وأن عقود الكراء لهذا الأمد تخضع لمقتضيات الظهير المشار إليه الآمرة والتي بمقتضى الفصل 11 منها أنه عند كمال التسعة أعوام يفرغ المكتري المحل الحبسي من جميع ما اشتمل عليه من البناء حجريا كان أو خشبيا أو من الغرس أو منهما وأنه سبق تذكير  المحكمة مصدرة القرار بمقتضيات الفصل 108 من قانون العقود والالتزامات التي تنص على أن كل شرط يقوم على شيء مخالف للقانون يكون باطلا ويؤدي إلى بطلان الالتزام الذي يعلق عليه.

حيث صح ما عابته الطاعنة على القرار، ذلك أنه اعتمد فيما قضى به تجاهها على أن العقدين العرفيين المبرمين بين المستأنفة وموروث المستأنف عليهم علي بن محمد الصحراوي بتاريخ 16/05/1961 و31/12/1958 “ينصان بصريح العبارة على أن الموروث المذكور يستحق بعد نجاح الغرس الثلث الواجد من الأرض والأشجار. ويعني ذلك أن الاتفاق وقع على المغارسة لا على الكراء المتوسط الأمد. وأن الفصل 230 من قانون العقود والإلتزامات ينص على أن الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة لمنشئيها، وتقيدا بذلك فلا مجال للاحتجاج بمقتضيات ظهير 22/05/1917 في القضية لكون هذه المقتضيات تخص الكراء المتوسط الأمد”. في حين أنه يتجلى من العقدين المشار إليهما أنهما عقدا كراء على أساس المغارسة للأمد المتوسط إذ نص كل منهما على أن ناظر أحباس صفرو أكرى الملك الحبسي لموروث المطلوبين لمدة تسع سنين وبوجيبة كرائية سنوية حددت في أحدهما في مبلغ 50 ر 42 درهما وفي الثاني في مبلغ 31 درهما وأن العقدين المذكورين لئن جاء في بنودهما الأخيرة أن الأحباس تساعد المغارس على تملكه ثلث العين المكراة أرضا وشجرا مقابل التزامه بغرس أشجار الزيتون فيها بعد نجاحها. إنما هو التزام من جهة الأحباس يعتبر باطلا لمخالفته مقتضيات الظهير الشريف المؤرخ في 22-05-1917 بشأن ضبط كراء الأملاك الحبسية لمدى ثلاثة أو ستة أو تسعة أعوام والواجبة التطبيق في النازلة والتي تلزم مكتري الملك الحبسي بقيامه بالغرس. إذ بمقتضي الفصل 13 منه أن الأراضي الخالية من البناء المكراة للأمد الوسطي يشترط في عقدها أن يغرس المكتري فيها. وأنه بمقتضى الفصل 11 من الظهير المذكور عند كمال التسعة أعوام يفرغ المكتري الملك الحبسي بجميع ما اشتمل عليه. و ليس من ضمن مقتضياته ما يفيد منح المكتري الغارس أي حق عيني على ما قام به من غرس، وأن القرار المطعون فيه حين ذهب عكس ذلك يكون خارقا لتلك المقتضيات مما عرضه بالتالي للنقض والإبطال.

وحيث إن حسن سير العدالة ومصلحة الطرفين يقتضيان إحالة الدعوى على نفس المحكمة.

لهذه الأسباب

وبصرف النظر عن البحث في باقي الأسباب المستدل بها على النقض.

قضى المجلس الأعلى بنقض وإبطال القرار المطعون فيه المشار إليه أعلاه، وإحالة الدعوى على نفس المحكمة للبت فيها من جديد بهيئة أخرى طبقا للقانون، وبتحميل المطلوبين في النقض الصائر.

كما قرر إثبات قراره هذا بسجلات المحكمة المذكورة إثر القرار المطعون فيه أو بطرته.

وبه صدر القرار وتلي الجلسة العلنية المنعقدة بالتاريخ المذكور أعلاه بقاعة الجلسات العادية بالمجلس الأعلى بالرباط. وكانت الهيئة الحاكمة متركبة من السادة: محمد العلامي رئيس الغرفة- وزهرة المشرفي- أعضاء وبمحضر المحامي العام السيد ولينا الشيخ ماء العينين، وبمساعدة كاتبة الضبط السيدة مليكة بنشقرون.

الرئيس                                 المستشار المقرر                                     كاتبة الضبط

ثانيا: التعليق.

يثير القرار موضوع التعليق مسألتين بالغتي الأهمية، تتعلقان على التوالي بحدود دور الإرادة في إنشاء الإلتزام، والثاني يتعلق بمدى جواز إبرام مغارسة في الأراضي الفلاحية الحبسية. وتتلخص وقائع نازلة القرار الذي بين أيدينا في أن ممثل إدارة الأحباس أبرم عقدين مع المطلوب في النقض  بموجبه أكرى له قطعتين حبسيتين خاليتي البناء لأمد متوسط حدد في تسع سنين بوجيبة كرائية سنوية مخفظة على أن يغرس المكتري العين المكراة بشجر الزيتون، وتساعده الأحباس على تملكه الثلث في الأرض والشجر عند نجاح الغرس، وبعد انتهاء العقد تقدمت إدارة الأحباس بمطلبين لتحفيظ للقطعتين المذكورتين، وهو ما تعرض عليه ورثة المكتري باعتبارهم خلفا عاما للوالدهم مطالبين بثلث القطعتين محل التحفيظ على أساس المغارسة، فأصدرت المحكمة الابتدائية بعد إحالة الملف عليها من المحافظ حكمها بصحة التعرض المشار إليه على المطالب أعلاه بدعوى أن استنادا للفصل 230 من قانون العقود والالتزامات على أن الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة لمنشئيها، استأنفته طالبة التحفيظ وأيدته محكمة الاستنئاف بمقتضى قرار تقدمت إدارة الأحباس بطلب نقضه بانية أسباب طعنها على خرق مقتضيات الفصل 108 من قانون العقود والالتزامات والفصل 11 من الظهير 22/05/1917. فأصدر المجلس الأعلى قرارا بنقض القرار محكمة الاستئناف بعلة أن التزام الأحباس بمقتضى عقد كراء على أساس المغارسة للأمد المتوسط بمساعدة المغارس على تملكه ثلث العين المكراة أرضا وشجرا، إنما هو التزام باطل لمخالفته مقتضيات ظهير 22/05/1917 والتي تلزم مكتري الملك الحبسي بقيامه بالغرس. وليس من ضمن مقتضياته ما يفيد منح المكتري الغارس أي حق عيني على ما قام به من غرس.

وبعد هذا التقديم الذي كان لا بد منه لربط النزاع بالمقتضيات القانونية التي تتعلق بها، وكذا تلخيص وقائع النازلة، يمكن القول أن الوسيلة الوحيدة التي اعتمدها المجلس الأعلى كأساس لتبرير قرار النقض، لم تكن كافية في نظرنا للدلالة على سلامة توجهه، ذلك أنه إذا كان لا يسعنا إلا أن نؤيد ما انتهى إليه المجلس في القرار موضوع التعليق من تقرير بطلان المغارسة في أرض الحبس، لكون هذا المبدأ يتماشى مع القواعد الفقهية التي تخضع لها الأحباس، والتي سنبرزها في النقطة الثانية من هذا التعليق، فإن اقتصاره على مضمون مقتضيات ظهير 22/05/1917 لنقض قرار محكمة الاستئناف بعلة أنه ليس فيها ما يفيد منح المكتري الغارس أي حق عيني على ما قام به من غرس، دون أن يبرز الأساس القانوني الذي اعتمد عليه في إعمال مقتضيات ظهير 22/05/1917، واستبعاده لبنود العقد المبرم بين الطرفين، الذي تلتزم بموجبه الأحباس بتكمين المغارس من ثلث الأرض المغروسة، ومن الشجر، قد لا يفي بالمقصود، خاصة وأنه من المتفق عليه أن لإرادة الأطراف دورها الفعال في الاتفاق على ما يخالف مضمون النصوص التشريعية، وأن موقف المجلس قد يبدو مناقضا لمقتضيات المادة 230 من ق.ل.ع التي تنص على أن: (( الالتزامات المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة لمنشئيها، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا، أو في الحالات المنصوص عليها في القانون ))، الأمر الذي يدعو إلى البحث عن مزيد من التبريرات المساعدة الأخرى لتدعيم موقف المجلس الأعلى.

ويمكن تلمس سند لما نحاه المجلس الأعلى في قراره السالف الذكر من تقرير بطلان التزام الأحباس بتمكين المغارس من ثلث الأرض المغروسة في تلك القيود الواردة على دور الإرادة في إنشاء التصرفات القانونية (أولا)، وكذا في قواعد الفقه الاسلامي التي تمنع المغارسة في أرض الحبس (ثانيا).

أولا: حدود دور الإرادة في إنشاء الالتزام.

إذا كان للأفراد – وفقا لمبدأ سلطان الإرادة([1]) الذي يعتبر مبدأ موجها يحكم تكوين وتنفيذ العقود في التشريع المغربي- أن يبرموا ما شاؤوا من التصرفات، ويرتبوا فيما بينهم ما ارتضوه من آثار، فإن هذه الحرية ليست مطلقة، وإنما تبقى محكومة بالعديد من القيود، حيث يتدخل المشرع ليحد من سلطة الإرادة بهذا الخصوص تحقيقا لمصلحة المجتمع العليا، وترتد هذه القيود إلى فكرة النظام العام وحسن الأداب، إذ لا يسوغ للإرادة أن تستهدف ترتيب آثار تتعارض مع المصلحة العامة للمجتمع، سواء كانت هذه المصلحة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو دينية([2])، وهو ما جسده المشرع المغربي عن طريق وضع قاعدة عامة يبطل بموجبها الالتزام المخالف للنظام العام، أو الأخلاق الحميدة، أو للقانون، ففي هذا الإطار ينص الفصل 108 من ق.ل.ع على أنه: ((كل شرط يقوم على شيء مستحيل أو مخالف للأخلاق الحميدة، أو للقانون، يكون باطلا، ويؤدي إلى بطلان الالتزام الذي يعلق عليه…)).

وبناء عليه؛ يمكن أن نستشف اعتماد المجلس الأعلى ضمنيا في تقريره لبطلان التزام الاحباس بتمكين المغارس من ثلث الأرض المغروسة، على مقتضيات الفصل 108 من ق.ل.ع، أي أنه اعتبر أن الشرط القاضي بتمكين المغارس من ثلث الأرض المغروسة خارق لمقتضيات الفصلين 13 و11 من ظهير 22/05/1917 التي تلزم مكتري الملك الحبسي بقيامه بالغرس. وأنه عند انتهاء المدة يفرغ الملك الحبسي بجميع ما اشتمل عليه، دون أن ينص على منح المكتري الغارس أي حق عيني على ما قام به من غرس. إلا أن الاستناد على مقتضيات الفصلين 11 و13 من ظهير 22/05/1917، لتقرير بطلان التزام الأحباس بتمكين المغارس من ثلث الأرض المغروسة، عبر إعمال نص الفصل 108 من ق.ل.ع، لا يكفي وحده في إيجاد تبرير موقف المجلس الأعلى، خاصة وأن وجود نص قانوني لا يكفي في حد ذاته لإعمال مقتضيات الفصل 108 من ق.ل.ع، وهدم الاتفاقات المخالفة لبعض ما يرد في النصوص القانونية، من أحكام ومقتضيات. إذ من المسلم به فقها وقضاء أن القاعدة القانونية تنقسم من حيث قوتها الملزمة إلى صنفين؛ قواعد آمرة  يهدف المشرع من ورائها بحماية المصلحة العامة للمجتمع، ولا يجوز للأفراد بأي حال من الأحوال الاتفاق على مخالفة أحكامها، أو استبعادها من معاملاتهم، وكل شيء من ذلك يقع باطلا بطلانا مطلقا بقوة القانون، وقواعد مكملة تتولى تنظيم الأمور تتصل بمسائل الأفراد الخاصة، ولها علاقة بنشاطهم الحر، ويجوز لهم استبعادها من معاملاتهم أو الاتفاق على ما يخالفها في حدود النظام العام وحسن الأداب.

وتأسيسا على ما ذكر؛ فإن مقتضيات الفصل 108 من ق.ل.ع، والتي تقضي ببطلان الالتزام المخالف للقانون لا تكون قابلة للإعمال إلا في الحالة التي يكون فيها الشرط أو الالتزام يمس قاعدة قانونية آمرة، أما ما عدا ذلك فإن للأطراف كامل الحرية في الاتفاق على ما يخالف مضمون النصوص التشريعية، طالما لم يكن في ذلك ما ينافي النظام العام أوالآداب العامة([3]).

إلا أن التساؤل الذي قد يطرح هنا يتمحور حول ما إذا كانت مقتضيات الفصلين 11 و13 من ظهير 22/05/1917، تعتبر من قبيل القواعد القانونية الأمرة التي لا يجوز للأطراف الاتفاق على مخالفتها، وكل اتفاق من قبيل ذلك يعتبر كأن لم يكن، تندرج ضمن القواعد المكملة، التي يمكن للأطراف الاتفاق على ما يخالف ما جاءت به طالما لم ينطو هذا الاتفاق على تعارض مع النظام العام أو الأداب العامة؟.

وفي نظرنا، فإن مقتضيات الفصل 11 من ظهير 22 ماي 1917 والتي تستوجب على المكتري عند كمال التسعة أعوام أن يفرغ المحل لحبسه بجميع ما اشتمل عليه من البناء حجريا أو خشبيا أو من الغرس أو منهما، تعتبر من قبيل القواعد الأمرة التي لا يجوز للأفراد بأي حال من الأحوال الاتفاق على مخالفة أحكامها، إذ أنه صياغته جاءت بصيغة الوجوب حيث استعمل المشرع لفظة “يفرغ المحل لحبسه بجميع ما اشتمل عليه….

وحتى لو سلمنا جدلا بأن المقتضيات المذكورة، تعتبر قواعد قانونية مكملة، فإن ذلك لا ينجم عنه أن يتم الاعتراف بصحة التزام إدارة الأحباس الذي يقضي بتمكين المغارس من ثلث الأرض المغروسة عند نجاح الغرس، إذ أن قواعد الفقه المالكي الواجبة التطبيق- على اعتبار أن الأحباس تبقى خاضعة في أحكامها للفقه الاسلامي- تقف حائلا دون ذلك، مادامت تمنع المغارسة في أراضي الأحباس، كما سنرى في النقطة الثانية من هذا التعليق.

ثانيا: موقف الفقه المالكي من المغارسة في الحبس.

مما تجدر الاشارة إليه أن الأملاك الحبسية تبقى خاضعة في أحكامها لقواعد الفقه الاسلامي، سواء تعلق الأمر بعقار حبسي محفظ، أو غير محفظ. ويجد هذا التطبيق سنده بالنسبة للعقارات الحبسية المحفظة في مقتضيات الفصل 75 من ظهير 2 يونيو 1915 المتعلق بالتشريع المطبق على العقارات المحفظة الذي جاء فيه أنه: “تبقى الأحباس خاضعة للقوانين والضوابط الخاصة والعوائد الإسلامية التي تجري عليها، وبالنسبة للعقارات الحبسية غير المحفظة، فتستمد أساسها مما استقر عليه الفقه والقضاء من اخضاع العقار غير المحفظ بصفة  عامة لقواعد الفقه المالكي، وهو ما أقره المجلس الاعلى في العديد من اجتهاداته، ومنها قراره المؤرخ في 2/06/1985، الذي جاء فيه:” لما كان النزاع يتعلق بعقار غير محفظ، فإن قواعد الفقه المالكي هي الواجبة التطبيق…)) ([4])، وكذا قراره بتاريخ 4 ماي 1994 الذي ورد فيه: (( العمل القضائي في الفقه المالكي يعد قانونا ملزما بالنسبة للعقارات غير المحفظة…)) ([5])

هذا، وبالرجوع إلى قواعد الفقه المالكي نجد أن من بين أحكامها في هذا الشأن عدم تفويت الأملاك المحبسة، وفسخ عقود التفويت التي أبرمت في شأنها ولو كان المفوت إليه حسن النية، كما أن هناك شبه إجماع لدى الفقه أن المغارسة هي من باب التفويت، الذي لا يجوز في الحبس، ففي هذا الصدد يرى الفقيه ابن جزي بألا تكون المغارسة في أرض محبسة، لأن المغارسة كالبيع)) ([6]). وفي كتاب العمل الفاسي: “لا تجوز المغارسة في أرض الحبس، لأنها من ناحية البيع، فإنه يقتضي عدم الجواز ابتداء، والفسخ بعد الوقوع([7]).

وجاء أيضا في نوازل البرزلي عن ابن الحاج: ((لا يجوز إعطاء الأرض المحبسة مغارسة، لأنه يؤدي إلى بيع بعضها([8])، كما سئل ابن منظور عن الأحباس تعطي أرضها لمن يغرسها لمدة معلومة ثم تنقضي المدة، فأجاب بأن مغارسة الأحباس يجدد فيها الكراء بدراهم بما يستحق لمدة معلومة، ولا تجوز المغارسة في أرض الحبس))([9]).

وبذلك يتضح لنا أن بطلان التزام الأحباس بتمكين المغارس من ثلث الأرض المغروسة يجد أساسه القانوني في كون هذا الالتزام ينطوي على خرق لنصوص القانون، سواء تعلق الأمر بتلك المنصوص عليها في الفصلين 11 و13 من ظهير 22/05/1917، والتي تلزم المغارس بإفراغ الأرض المكتراة بجميع مشتملاتها، أو تلك الواردة في قواعد الفقه المالكي التي تمنع المغارسة في الأراضي الحبسية لأنها من قبيل البيع الذي لا يجوز في الحبس، على اعتبار أن هذه القواعد تعتبر بمثابة قانون يسري على العقارات الحبسية سواء كانت محفظة أم غير محفظة، ولذلك كانت محكمة الاستناف بفاس موفقة على خلاف قضاة المجلس الأعلى في إبراز الأساس القانوني لإبطال التزام الأحباس بتمكين المغارس من ثلث الأرض والشجر، بعد تمام الغرس، وذلك بمقتضى قرارها المؤرخ في 7/5/2008، والذي جاء فيه: ((حيث إن القطعة المذكورة هي من ضمن الاملاك المحبسة حبسا معقبا على المتعرض ضدهم، وأن الحبس سواء كان حبسا عاما أو حبسا خاصا ( معقبا) لا يجوز تفويته ولا قسمته قسمة بتية لأن ذلك يتنافى مع طبيعته التي هي تمليك المنافع وليس تمليك الثروات وذلك احتراما لإرادة المحبس…، وحيث أن المغارسة تعتبر نوعا من أنواع التفويتات، فإنه يجري عليها ما يجري على هذه التفويتات، وهو عدم نفاذها، أي أنها باطلة، لانصبابها على شيء محبس…..)) ([10]).

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ باحث بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، ومدير المركز الوطني للدراسات القانونية

([1])  ويقوم هذا المبدأ على أن الارادة لها الدور الأكبر في تكوين العقد، وتحديد الآثار التي تترتب عليه، فهي صاحبة السيادة والسلطان في تعيين الحدود التي تلتزم فيها، وأن التزام الشخص بإرادته، أو قبوله التحمل بالتزام معين يجعله متحملا بالصورة التي حددها، ولا يجوز تعديلها أو التحلل منها إلا إذا رضي المتعاقد معه بذلك.

([2])  ادريس العلوي العبدلاوي: شرح القانون المدني: النظرية العامة للالتزام .نظرية العقد، الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء، 1996، ص 103 وما بعدها.

([3])   أمينة الشايب: المبادئ القانونية العامة، الجزء الأول، نظرية القانون، مكتبة الشباب، الطبعة الثانية، الرباط 2000، ص 141.

([4])    مجلة القضاء القضاء والقانون، العدد 138، ص 208 وما بعدها.

([5])    مجلة قضاء المجلس الأعلى، العدد 47، ص 57 وما بعدها.

([6])   محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي: القوانين الفقهية، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء 2003، ص 304.

([7])    أبي عبد الله السجلماسي:شرح العمل الفاسي، ص 80.

([8])   أبي عيسى سيدي المهدي الوزاني: النوازل الجديدة الكبرى فيما لأهل فاس وغيرهم من البدو والقرى، تحقيق وتصحيح عمر بن عباد، الجزء الثامن، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية، الرباط 1998، ص 43،

([9])   أبي عيسى سيدي المهدي الوزاني: مرجع سابق، ص 71.

([10])   محكمة الاستئناف بفاس، قرار عدد 226 مؤرخ في 7 ماي 2008، ملف عقاري عدد 244/07/8، غير منشور.